تهوي الشمس بأشعتها العموديّة الحارّة، فتزفر ظهيرة الصيف بأنفاسها الملتهبة إلى حدّ لا يطاق، والطالبات يخرجن من المدرسة في خطى عجلة ضجرة، لا تكاد تحتمل الثواني القليلة الفاصلة من فناء المدرسة إلى السيّارة..
فتحت سيّارة أخي بسرعة، وأفلتت مني صرخة صغيرة، فقد كان المقبض ساخناً جداً! ألقيت بنفسي إلى الداخل وقد بلغ مني الضجر مبلغه، أغلق أخي إذاعة السيّارة التي كانت تصدح بالقرآن الكريم بصوت شجيّ، والتفت إليّ بلهفة وحنان وقال: سلامات.. في المرّة الثانية سأفتحه أنا من الداخل إن شاء الله...، لا إله إلا الله، ما أشدّ حرّ هذا اليوم، اللهمّ أجرنا من حرّ جهنم..
تذكّرت أنّي لم أحيِّه فقلت: هلا، مساء الخير..، رمقني باسماً وقال بعتاب لطيف: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، غمرني خجل وحياء، ولم أدر بما أردّ..
مضينا في طريقنا بهدوء، أنسام مكيّف الهواء تشعرني بإنتعاش لا مثيل له، لمست بأناملي فتحة الهواء البارد، فالتفت إليّ أخي وقال: هل الجوّ مريح؟ أيناسبك كذا أم أزيد البرودة؟ قلت: لا، شكرا، الجوّ جميل هكذا، فمدّ يده ورفع الفتحة قليلاً عنّي وهو يقول: حسناً، أخشى عليك يا أختي أن تمرضي، فالهواء بارد والعرق يكتنفك..
نظرت إليه بتأمّل.. وجهه الهادئ يأسرني بإبتسامته الرازنة، وشفقة ودودة تتفجر من نظراته الحنونة، تزيّن ذلك المحيا الوقور لحية صغيرة مهيبة، لم تعجبني بشعيراتها المتفرّقة عندما أطلقها قبل أشهر، سخرنا منه كثيراً وأنكرنا وضحكنا، لكنّ إبتسامته الرائعة تظلّ كما هي..
أريج معاملته الطيّبة منذ التزامه يفوح شذى وخيراً علينا جميعا، خدمته المتفانية، شفقته الحانية، وإهتمامه وإحترامه وحرصه، يطوّق أعناقنا بإحسان لا ينتهي..
غرقت في هذه الأفكار، حتّى وصلنا إلى البيت، لقد كان قريباً جداً من مدرستي، وعادة ما آتي على قدميّ، لكنّ أخي أصرّ مؤخّراً على أن يوصلني هو بسيّارته إلى المدرسة والبيت، فهو لا يأمن عليّ ذئاب الطريق، ويرحمني من هذا الحرّ الذي لا يطاق..
قبل أن ننزل، أمسك بيدي وقال: لا تنسي أن تقبلي رأس والديك إذا دخلت، حسناً؟
تذكرت أنّي كثيرا ما أصعد إلى غرفتي مباشرة، وأنا أشعر بالتعب والإرهاق، وقد سألني عدّة مرات لم لا أسلّم على والدي إذا دخلت، فأتعلّل بالنسيان!
مواقف كثيرة خلال الأيّام التالية تتفتّق مثل الورد عن عبير معاملته الفوّاح، لا أنسى منها إحسانه إليّ في أيّام الصيف هذه، وسؤاله الدائم لي عن هواء المكيّف، وحرصه الشديد على صحّتي.. إنّه في كلّ يوم يفعل ذلك، حتّى إذا إستحكم طوق الإحسان حول عنقي، وعرفت أيّ تمسّك بالدين يزيّنه ويحسّن خلقه ويعده بالأجر على إحتسابه، خطوت إثره في درب الإلتزام والدعوة..
إنّه لم يعطني شريطاً ولا كتاباً، بل ولم يوجّه إليّ نصيحة مباشرة، بل كان ما يزال كما يبدو في بداية طريق الدعوة معي، أراد إكتساب قلبي بخلقه الحسن بادئ الأمر، فجنى بإخلاصه الثمار قبل الموسم!
المصدر: موقع رسالة المرأة.